تدويناتمواضيع سياسية

بعد كل هذا، هل انتصرت غزة؟

في ميزان التاريخ، النصر ليس حدثًا عابرًا يُحتفل به في ساحات المدن أو يُسجل في صفحات كتب المدرسة، بل هو قصة تُروى على مر الأجيال، ترسّخها أرواح الشهداء ومعاناة الأحياء الذين دفعوا ثمنًا باهظًا للحفاظ على كرامتهم وهويتهم.
حين نسأل: هل انتصرت غزة؟
فإن الإجابة لا تكمن في عدد المعارك التي خاضتها هذه المدينة الصغيرة، ولا في أعداد الشهداء التي قُدمت فداءً للحق ودفعًا للباطل، بل في ذاك الإصرار الذي ينبض في قلوب أبنائها، في قدرة شعبها على الوقوف مجددًا رغم الحصار والدمار.
غزة انتصرت لأنها ببساطة، لم تهزم، انتصرت لأنها ما زالت تنبض بالحياة، وما زالت تبعث برسائل التحدي لكل من حاول إخماد صوتها أو كسر إرادتها.

الثورة الجزائرية!
ربما كانت من أعظم شواهد التاريخ على أن الدماء لا تذهب سدى، مليون ونصف المليون شهيد لم يكونوا مجرد أرقام تُحصى في الذاكرة، بل هم إرث صَنع هوية أمة بأكملها، إن الجزائر اليوم لم تستعد استقلالها فقط، بل استعادت نفسها، لغتها، ثقافتها، وكرامتها، ولم تُكتب نهايتها في يوم الاستقلال، بل امتدت في روح كل جزائري يرى في التضحية قيمة سامية وفي الكفاح ضرورة للحياة.

الثورة الفرنسية!
ربما امتدت معاناتها لما يزيد على قرن، لكنها غيّرت وجه أوروبا بأكملها، لم يكن الهدف مجرد الإطاحة بملكية أو تحقيق انتصار سياسي، بل كان بناء قيم جديدة: الحرية، المساواة، والعدالة، كان ذلك النصر عميقًا، لم يُثمر فقط نظامًا جديدًا، بل أسس لحضارة ألهمت العالم.

شعب فيتنام!
ذلك الشعب الذي واجه أعتى قوة عسكرية في عصره بثلاثة ملايين ضحية، لكنه خرج منتصرًا
ليس لأن الحرب انتهت فقط، بل لأنهم حافظوا على أرضهم وهويتهم، الفيتناميون قدموا درسًا خالدًا للعالم: أن إرادة الحرية لا تُقهر، وأن تضحيات الشعوب هي الثمن الذي يُدفع لكتابة مستقبل مستقل.

أما أولئك الأبطال الخالدون مثل: عز الدين القسام، عمر المختار، عبد القادر الحسيني، إسماعيل هنية، يحيى السنوار، فإنهم لم يموتوا أبدًا، هؤلاء الأبطال لم يُهزموا برحيلهم عن الدنيا، بل خُلّدوا لأنهم عاشوا واستشهدوا في سبيل قضية عادلة، عمر المختار حين قال: “نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت”، لم يكن يتحدث عن معركة عابرة، بل كان يضع قاعدة ذهبية لكل من يسعى للنصر، لا انتصار بلا صمود، ولا صمود بلا تضحية.

وحمزة بن عبد المطلب! أكان موته هزيمة؟
كلا على الإطلاق، إن حمزة كان عنوانًا للانتصار الذي يتجاوز حدود الجسد، استشهاده كان نداءً للأمة، بأن الدماء التي تُراق من أجل الحق هي ما يبني أعظم الحضارات ويخلد أسمى القيم.

النصر إذًا ليس في مساحة الأرض المستعادة أو في عدد الأعداء المقتولين، النصر هو أن تبقى القضية حية، أن تستمر المقاومة، أن تظل المبادئ مشتعلة كاللهب في القلوب، الهزيمة الحقيقية ليست خسارة معركة، بل هي لحظة يختار فيها الإنسان الاستسلام، ويترك فيها حقه تحت أقدام الظالم.

لهذا إن غزة انتصرت، كما انتصر كل من حمل قضية عادلة ووقف في وجه قوى الظلم والطغيان، النصر لا يُنتظر، بل يُصنع، وما دمنا نؤمن بأن الحقوق لا تُوهب بل تُنتزع، فإن الهزيمة لن تعرف لنا طريقًا، غزة ليست مجرد مكان، بل رمز خالد للصمود، ودليل على أن النصر لا يكتبه الأقوياء بأسلحتهم، بل المؤمنون بعدالة قضيتهم وبأن الحق دائمًا ينتصر.

الهزيمة الوحيدة هي الانكسار الداخلي، حين يتسلل اليأس، أو تُخمد روح المقاومة، طالما ظل القلب نابضًا بالإيمان، فإن النصر قادم لا محالة.

اظهر المزيد

صلاح صافي

من جذور هذا البلد، ولدت حرًا، رُبع ناقد شبه كاتب نصف سياسي، كل ما أكتبه من الواقع وأحيانًا من قلم ساخر لا يمتُ للواقع بِصلة..
زر الذهاب إلى الأعلى